لحظات غرق جزيرة الحوت
محمد المخزنجي
***********************
في عام 1986 قرر أحد العباقرة الذين تم تعيينهم في مكانهم بالواسطة في أحد مراكز الطاقة المهمة أن يجرب حظه قليلاً في اللعب والتجربة العلمية، وهكذا قام بمجموعة من الإجراءات التي أدت إلى مقتله وإنفجار المركز الذي كان يأويه، ذلك المركز كان المفاعل النووي الذي يحمل اسم "تشيرنوبل".
وهكذا ولدت كارثة "تشيرنوبل".
وفي عام 1986 كان الدكتور "محمد المخزنجي" يريد أن يدرس علم النفس في الإتحاد السوفيتي أنذاك، فقرر أن يستقر في "كييف" لبعض الوقت، وهناك قرر أن يكتب يومياته، تلك اليوميات التي تمحورت كلها حول عام كامل قضاه في كييف بعد إنفجار المفاعل النووي "تشيرنوبل" ينظر إلى البشر من حوله، وكيف تفاعلوا مع ذلك الإنفجار، ما الذي تغيير بهم ؟! وما الذي تغيير في المدينة من حولهم !
قام الكاتب بتقسييم السنة إلى أربعة فصول هي بطبيعة الحال الربيع والصيف والخريف والشتاء، وكتب اسمًا لكل مجموعة من اليوميات هو "يوميات الربيع .. يوميات الصيف .. إلخ" وقام بكتابة خواطره وجولاته ومشاهداته وملاحظاته حول الحياة التي تحولت إليها "كييف" وأسلوب العيش الذي أصبح عليها، وقرر أن يكتب عن عامة الشعب في تلك اللحظات التي هي أقرب إلى الشجن منها إلى الرعب.
وفي الجزء الثاني من الكتاب قام الكاتب بوضع يومياته في موسكو إذ قرر أن يغادر الإتحاد السوفيتي، تحت اسم "طوابير موسكو 90" والتي يتحدث بها عن آخر أيام الإتحاد السوفيتي وعن الأحداث الجارية من حوله.
يهتم الكاتب بشدة بالبشر العاديين من حوله، وبطريقة تأثرهم بالحدث الرهيب، إلى جانب اهتمامه الواضح بمحاولة فهم أسباب ردود أفعالهم، وأسباب ما يحدث حولهم، كما أنه يرى في يومياته الأشياء البسيطة التي لا يراها البشر العاديين، فهو يتحدث عن الورد وبائعاته والطريقة التي كنّ يبعن بها الورد في الزمان الماضي والطريقة التي أصبحن يبعن بها الورد بعد تشيرنوبل، كما أنه يتحدث عن المدينة التي أضطر أهلها إلى تنظيفها بخراطيم المياه ثلاث مرات يوميًا كي لا يتجمع الغبار النووي على جدارنها، مدينة نظيفة جدًا ولكنها متعبة جدًا في الوقت نفسه، يتحدث أيضًا عن تجمعات الأحذية على أبواب البيوت (حيث صدر قانون بمنع دخول البيوت بالاحذية في تلك الفترة منعًا لدخول التراب النووي متعلقًا بالحذاء إلى المنزل) وكيف أصبح يستطيع عبر النظر إلى أحذية كل بيت أن يدرك ما يعيشه أهله من فقر أو مأساة.
يأخذك الكاتب في عوالمه كالمعتاد، ويضيع بك في دنيا أخرى لا تستطيع أن تدركها، من يستطيع أصلاً عدا المخزنجي أن يقوم بنقلك إلى دنيا من المشاعر عبر كارثة نووية مرعبة كهذه ؟! من يستطيع عداه أن يقول لك جمال المشاعر وإنشداد أوتارها بمثل هذه الطريقة عدا المخزنجي.
لو كنت قد قرأت للمخزنجي كتاب "أوتار الماء" ( موجود بالمنتدى ) ستفهم ما أعنيه، وإن كنت لم تقرأه، فعليك أن تقرأه حالاً.
الجميل في الكتاب أنه مبني على أحداث حقيقية، حتى أنك تكاد أن ترى المشاعر مرسومة بحق على جدران البيوت بالطريقة التي تحدث بها المخزنجي، وتستطيع أن ترتبط بالشخوص أكثر لأنك تدرك بأن هذه المأساة حقيقة، وهذا الألم البادي على وجوههم والذي لم يستطع أحد عدا المخزنجي رسمه بالكلمات هو ألم حقيقي حقًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق